نظام العقوبات الأوروبي لحقوق الإنسان.. هل هو أداة مُعطلة في مواجهة جرائم الإبادة الإسرائيلية؟
نظام العقوبات الأوروبي لحقوق الإنسان.. هل هو أداة مُعطلة في مواجهة جرائم الإبادة الإسرائيلية؟
يشهد النظام الدولي في المرحلة الراهنة اختباراً بالغ الصعوبة لمدى قدرته على حماية المدنيين وإنفاذ القانون الدولي الإنساني، خصوصاً في ظل شلل مجلس الأمن الدولي بفعل الانقسامات السياسية واستخدام حق النقض من قبل القوى الكبرى، ويُطرح في هذا السياق سؤال محوري: ما مدى قدرة الاتحاد الأوروبي على استخدام آلياته الخاصة، وعلى رأسها نظام العقوبات العالمي لحقوق الإنسان، للوفاء بالتزاماته القانونية والأخلاقية تجاه المدنيين في غزة والضفة الغربية، حيث تتفاقم الانتهاكات وتتجاوز آثارها حدود المنطقة إلى شرعية النظام الدولي برمّته.
جذور العقوبات في القانون الدولي
وفق مقال نشرته كريستين إيفانز المحاضرة في مجال حقوق الإنسان والمسؤولة الأممية السابقة بموقع "opiniojuris" يوم الاثنين لم يرد مصطلح "العقوبات" صراحةً في ميثاق الأمم المتحدة، بل استُخدم تعبير "التدابير" بموجب الفصل السابع، وتشمل هذه التدابير وقف العلاقات الاقتصادية، وحظر الأسلحة، وتجميد الأصول، وقيود السفر، وتاريخياً، شكّلت العقوبات أداة لمكافحة الفصل العنصري، لكنها أيضاً أثارت جدلاً واسعاً بسبب آثارها الإنسانية المدمرة كما حدث في العراق ويوغوسلافيا السابقة، وقد دفع ذلك المجتمع الدولي إلى التحول نحو "العقوبات المستهدفة" التي تركز على الأفراد والكيانات المتورطة مباشرة في الانتهاكات.
رغم ذلك، تبقى العقوبات خارج إطار مجلس الأمن مثار خلاف قانوني، فبينما تراها بعض الدول إجراءات مشروعة تستند إلى مسؤولية جماعية لحماية المدنيين ومنع الإبادة، تعتبرها دول أخرى تدابير أحادية تخالف مبدأ عدم التدخل وتمسّ بالحقوق الاقتصادية للشعوب، وقد أنشأ مجلس حقوق الإنسان مقرراً خاصاً بالتدابير القسرية الأحادية الجانب لرصد هذه الإشكالية.
من الأزمة الإنسانية إلى المجاعة المعلنة
في 15 أغسطس 2025، أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر دخول قطاع غزة في حالة مجاعة مؤكدة، وهو توصيف صادم يعكس فشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين، وتُقدّر المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن 70% من القتلى في غزة نساء وأطفال، فيما تشير اليونيسف إلى إصابة أو مقتل أكثر من 50 ألف طفل منذ أكتوبر 2023. وتؤكد لجنة التحقيق الدولية أن الحصار المفروض يشكل عقاباً جماعياً، وأن حرمان السكان من الغذاء والدواء يرقى إلى استخدام التجويع كسلاح حرب، ما قد يرقى إلى جريمة إبادة جماعية وفق القانون الدولي.
في الضفة الغربية، ازداد عنف المستوطنين المسلحين ضد الفلسطينيين مع دعم سياسي مباشر من وزراء في الحكومة الإسرائيلية، وهي انتهاكات وثقتها تقارير الأمم المتحدة ومنظمات إسرائيلية محلية، وقد أُدرج بعض المستوطنين بالفعل على لوائح العقوبات الأوروبية، لكن غياب استراتيجية شاملة يجعل هذه الخطوات محدودة الأثر.
موقف الاتحاد الأوروبي: بين المبادئ والمصالح
يؤكد الاتحاد الأوروبي في معاهداته أن حماية حقوق الإنسان ركيزة لسياسته الخارجية، ومنذ 2020 اعتمد نظام العقوبات العالمي لحقوق الإنسان، الذي استُخدم في حالات متعددة بينها روسيا وسوريا وبورما، وحتى أغسطس 2025، فُرضت عقوبات على 131 فرداً و37 كياناً بموجب هذا النظام. ومع ذلك، ظل الموقف الأوروبي متردداً حيال الانتهاكات في غزة والضفة الغربية.
في 30 أغسطس 2025، فشل وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى توافق حول أي تدابير عقابية جديدة، وبينما طُرحت خيارات مثل حظر الأسلحة أو تجميد أصول مسؤولين إسرائيليين أو تعليق مشاركة إسرائيل في برامج الأبحاث الممولة أوروبياً، بقيت القرارات معلقة بفعل الانقسامات الداخلية بين الدول الأعضاء.
أحد أبرز عناصر الضغط بيد الاتحاد الأوروبي هو "اتفاقية الشراكة" مع إسرائيل، التي تمنحها امتيازات تجارية واسعة وتشكل 30% من تجارتها الخارجية، وتنص المادة الثانية من الاتفاقية على أن احترام حقوق الإنسان عنصر جوهري فيها، ورغم أن تعليقها يتطلب إجماعاً، يمكن تجميد بعض فصولها التجارية بأغلبية مؤهلة. غير أن الإرادة السياسية لاتزال غائبة.
فجوة بين المواقف
على الصعيد الدولي، تبنت 149 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة في يونيو 2025 قراراً يطالب جميع الدول باتخاذ إجراءات لضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب القانون الدولي. كما حذر خبراء حقوق الإنسان بالأمم المتحدة من أن استمرار دعم إسرائيل بالسلاح أو التمويل قد يرقى إلى التواطؤ في جرائم دولية.
من جانب آخر، فرضت كندا وأستراليا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والنرويج في منتصف 2025 عقوبات على وزراء إسرائيليين بسبب تحريضهم على العنف والتطهير العرقي، تبعتها هولندا بإدراجهم على لائحة حظر الدخول إلى فضاء شنغن. أما ألمانيا، فقد أعلنت تعليقاً جزئياً لصادراتها العسكرية، وهذه الخطوات الفردية تبرز التباين الواضح مع غياب موقف أوروبي موحّد.
في المقابل، اتخذت الولايات المتحدة منحى مختلفاً باستهدافها قضائيين ومسؤولين أمميين عملوا على توثيق الانتهاكات، وهو ما أثار انتقادات المفوض السامي لحقوق الإنسان ورئيس مجلس حقوق الإنسان.
المسؤولية المشتركة
تُذكّر المواد الخاصة بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً بأن على الدول التعاون لوقف الانتهاكات الجسيمة وعدم تقديم العون لاستمرارها، كما تفرض اتفاقية منع جريمة الإبادة على جميع الدول واجب منعها ومعاقبة مرتكبيها، وفي حالة غزة والضفة الغربية، فإن تجاهل المجتمع الدولي، وبخاصة الاتحاد الأوروبي، لهذه الالتزامات يُهدد بتقويض مشروعية القانون الدولي ذاته.
فاعلية القانون الدولي لا تقاس بالنصوص بل بمدى إنفاذها، وقد أكدت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري بشأن فلسطين أن على الدول الامتناع عن أي معاملات اقتصادية أو استثمارية تُرسخ الوضع غير القانوني. بالتالي، فإن استمرار الشراكات الاقتصادية والسياسية مع إسرائيل دون قيود يضع الاتحاد الأوروبي أمام تناقض صارخ بين مبادئه وممارساته.
اختبار المصداقية والشرعية
تقاعس الاتحاد الأوروبي عن اتخاذ إجراءات ملموسة يبعث برسالة سلبية إلى الضحايا في غزة والضفة الغربية، كما يقوّض مصداقية منظومة العقوبات الأوروبية، ففي حين أظهر الاتحاد حيوية كبيرة في مواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن تردده في الملف الفلسطيني يُبرز ازدواجية معايير تضعف شرعيته كفاعل دولي مدافع عن حقوق الإنسان.
وبينما تواصل منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش التنديد بما تصفه بجرائم حرب في غزة، تحذر الوكالات الإنسانية من انهيار شامل للخدمات الصحية والغذائية، وتؤكد أن التأخر في استخدام أدوات الضغط القانونية والاقتصادية المتاحة قد يجعل الاتحاد الأوروبي شريكاً في فشل تاريخي للنظام الدولي في حماية المدنيين.
وبحسب المسؤولة الأممية السابقة يقف الاتحاد الأوروبي اليوم أمام مفترق طرق إما أن يستخدم نظام عقوباته العالمية لحقوق الإنسان بصرامة ووفق التزاماته القانونية لوقف الانتهاكات في غزة والضفة الغربية، وإما أن يرسخ صورة "العجز الانتقائي" في إنفاذ القانون الدولي، وفي الحالتين، ستكون النتائج بعيدة المدى ليس فقط على المدنيين الفلسطينيين، بل أيضاً على مصداقية النظام الدولي لحقوق الإنسان برمته.